الجمعة، 24 مارس 2023

أصول المذهب الشافعي

أصول المذهب الشافعي

كتب أصول الفقه في المذاهب الأربعة,اقرأ أيضاً

وهو ما يعبِّر عنه أيضاً بـ: «أصول مذهب الإمام الشافعي». يُعد الإمام الشافعي أول من صنَّف في أصول الفقه، ورسالته التي ألفها في هذا العلم هي أول مصنف فيه وصل إلينا؛ وبهذا يكون الشافعي قد انفرد بتدوين أصول مذهبه؛ فكفى أتباعه العبء الذي تحمَّله غيرهم، باستنباط أصول مذاهبهم من فروعهم، وقد رتَّب الشافعي أصول استنباطه، وتحدَّث عنها بالتفصيل See more Webأصول المذهب الشافعي 1 ـ الكتاب. والکتاب مشترک بين المذاهب. 2 ـ السنّة. 3 ـ الإجماع. 4 ـ قول الصحابي الذي لايخالفه قول آخر من الصحابة. 5 ـ القياس Webأصول المذهب الشافعي ذكر الإمام الشافعي الأصول التي قام عليها مذهبه صراحة في كتابه الأمّ والرسالة، وهذه الاصول هي القرآن الكريم، والسنة النبويّة الشريفة، والإجماع إن وُجد، وإلّا فقول Webأصول الامام الشافعي: الأصل الأول: كتاب الله تعالى والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة ، ومعرفة أقسامها. وهو ينقسم إلى: أمر ونهي ، وعام وخاص ، ومجمل ومبين ، وتاسخ ومنسوخ. الأصل الثاني: السنة والسنة في اللغة: أصلها الطريقة المحمودة ، قال الخطابي ، فإذا Webتكوين المذهب الشافعي وأطواره. أصول الفقه. وبعد وفاة الإمام الشافعي نقل الطلبة مذهبه وانتشر روايته، ونقلوه في مؤلفاتهم وعرفوه غيرهم من أصحاب المذاهب الفقهية ... read more




الأصل الثاني : السنة والسنة في اللغة : أصلها الطريقة المحمودة ، قال الخطابي ، فإذا أُطلقت انصرفت اليها ، وقد تستعمل غير مقيدة ، كقولهم : من سنّ سنة سيئة. وتطلق على الواجب في عُرف اللغويين والمحدّثين ، وأما في عُرف الفقهاء ، فيطلقونها على ما لا ليس بواجب ، وتطلق في مقابلة البدعة. والسنة في المصطلح : تُطلق على ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم من ألأقوال ، والأفعال ، والتقرير ، والهم ، وهذا الأخير لم يذكره الأصوليون ، ولكن الشافعي استعمله في الاستدلال. وتُطلق على ما ترجح جانب وجوده على جانب عدمه ترجيحا ليس معه المنع من النقيض. فذكر السنة بلفظ التلاوة كالقرآن ، وبين سبحانه أنه آتاه مع الكتاب غير الكتاب ، ، وهو ما سنّه على لسانه مما لم يذكره فيه ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " ألا إني قد أوتيت القرآن ، ومثله معه ".


رواه أبو داود. وفي بعض طرقه قال : " أوتيت القرآن ، وأوتيت مثله " من السنن التي لم ينطق بها القرآن بنصه ، وما هي الا مفسرة لإرادة الله به ، كتحريم الحمار الأهلي ، وكل ذي ناب من السباع ، وليسا بمنصوصين في الكتاب. المرجع السابق. وقال ابن حبان في صحيحه في قوله صلى الله عليه وسلم : " بلغوا عني ولو آية " ، قال : " فيه دلالة على أن السنة يقال فيها : آي. وقال الشافعي في "الرسالة " : في باب فرض طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى : من يطع الرسول فقد أطاع الله سورة النساء وكل فريضة فرضها الله تعالى في كتابه كالحج ، والصلاة ، والزكاة ، لولا بيان الرسول صلى الله عليه وسلم ما كنا نعرف كيف نأتيها ، ولا كان يمكننا أداء شيء من العبادات ، واذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم من الشريعة بهذه المنزلة ، كانت طاعته على الحقيقة طاعة لله.


والسنة تنقسم إلى ثلاثة أقسام : قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي " الرِّسَالَةِ " : لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ سُنَنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ نَصَّ كِتَابٍ ، فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ نَصِّ الْكِتَابِ. وَالثَّانِي : مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ جُمْلَةَ كِتَابٍ ، فَبَيَّنَ عَنْ اللَّهِ مَا أَرَادَ ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِمَا. وَالثَّالِثُ : مَا سَنَّ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : جَعَلَ اللَّهُ [ لَهُ بِمَا ] فَرَضَ مِنْ طَاعَتِهِ ، وَسَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنْ تَوْفِيقِهِ لِرِضَاهُ ، أَنْ يَسُنَّ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَصُّ كِتَابٍ.


وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : لَمْ يَسُنَّ سُنَّةً قَطُّ إلَّا وَلَهَا أَصْلٌ فِي الْكِتَابِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ جَاءَتْهُ رِسَالَةُ اللَّهِ فَأَثْبَتَ سُنَّتَهُ بِفَرْضِ اللَّهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : أُلْقِيَ فِي رُوعِهِ كَمَا سَنَّ. البحر المحيط والسنة على قسمين : 1- الأقوال : وَتَنْقَسِمُ إلَى نَصٍّ ، وَظَاهِرٍ مُجْمَلٍ وَغَيْرِهِ ، وَقَدْ سَبَقَتْ مَبَاحِثُ الْأَقْوَالِ بِأَقْسَامِهَا مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ، وَالْعَامِّ وَالْخَاصِّ ، وَالْمُجْمَلِ وَالْمُبَيَّنِ ، وَالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ. الأصل الثالث : الإجماع : الإجماع لغة : يطلق في اللغة على معنيين : العزم على الشيء والإمضاء ، والثاني : الاتفاق.


الاجماع في المصطلح : هُوَ اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فِي حَادِثَةٍ عَلَى أَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ فِي عَصْرٍ مِنْ الْأَعْصَارِ. فَخَرَجَ اتِّفَاقُ الْعَوَامّ ، فَلَا عِبْرَةَ بِوِفَاقِهِمْ وَلَا خِلَافِهِمْ ، وَيَخْرُجُ أَيْضًا اتِّفَاقُ بَعْضِ الْمُجْتَهِدِينَ. وَبِالْإِضَافَةِ إلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ خَرَجَ اتِّفَاقُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ ، وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى رَأْيٍ ، لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي الْإِجْمَاعِ الَّذِي هُوَ حُجَّةٌ. حجية الإجماع : قال الامام الشافعي في " الرسالة " ص " فقال لي قائل : قد فهمتُ مذهبك في أحكام الله ، ثم أحكام رسوله ، وأنّ من قَبِل عن رسول الله ، فعن الله قَبِل ، فإن الله افترض طاعة رسوله ، وقامت الحجة بما قلتَ : بأن لا يحلَّ لمسلم عَلِمَ كتاباً ولا سنة أن يقول بخلاف واحد منهما ، وعلمتُ أن هذا فرضُ الله.


فما حجتك في أن تَتْبع ما اجتمع الناس عليه مما ليس فيه نص حكم لله ولم يحكوه عن النبي ؟ أتزعُمُ ما يقول غيرك أن إجماعهم لا يكون أبداً إلا على سنة ثابتة وإن لم يحكوها ؟ قال : فقلت له : أمَّا ما اجتمعوا عليه فذكروا أنه حكاية عن رسول الله ، فكما قالوا إن شاء الله وأما ما لم يحكوه ، فاحتمل أن يكون قالوا حكايةً عن رسول الله ، واحتمل غيره ، ولا يجوز أن نَعُدَّه له حكايةً ، لأنه لا يجوز أن يحكي إلا مسموعاً ، ولا يجوز أن يحكي شيئاً يُتَوَهَّم يمكن فيه غير ما قال. فكنا نقول بما قالوا به اتباعاً لهم ، ونعلم أنهم إذا كانت سنن رسول الله لا تَعزُبُ عن عامتهم ، وقد تعزُبُ عن بعضهم. ثم قال له: «إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء ما يقرأ لك». يقول الشافعي: «فغدوت عليه وابتدأت أن أقرأ ظاهراً، والكتاب في يدي، فكلما تهيبت مالكاً وأردت أن أقطع، أعجبه حسن قراءتي وإعرابي، فيقول: «يا فتى زد»، حتى قرأته عليه في أيام يسيرة».


وقد روي عن الشافعي أنه قال: قدمت على مالكٍ وقد حفظت الموطأ ظاهراً، فقلت: «إني أريد أن أسمع الموطأ منك»، فقال: «اطلب من يقرأ لك»، وكررت عليه فقلت: «لا، عليك أن تسمع قراءتي، فإن سهل عليك قرأت لنفسي»، قال: «اطلب من يقرأ لك»، وكررت عليه، فقال: «اقرأ»، فلما سمع قراءتي قال: «اقرأ»، فقرأت عليه حتى فرغت منه. وفي رواية أخرى عن الشافعي أنه قال: وقدمت على مالك وقد حفظت الموطأ، فقال لي: «أحضر من يقرأ لك»، فقلت: «أنا قارئ»، فقرأت الموطأ حفظاً، فقال: « إن يك أحدٌ يفلح فهذا الغلام ». وبعد أن روى الشافعي عن الإمام مالك موطأه لزمه يتفقهُ عليه، ويدارسُه المسائلَ التي يفتي فيها الإمام، إلى أن مات الإمامُ سنة هـ ، وقد بلغ الشافعي شرخ الشباب، ويظهر أنه مع ملازمته للإمام مالك كان يقوم برحلات في البلاد الإسلامية يستفيد منها، ويتعلم أحوال الناس وأخبارهم، وكان يذهب إلى مكة يزور أمه ويستنصح بنصائحها.


لما مات الإمام مالك، وأحس الشافعي أنه نال من العلم أشطراً، وكان إلى ذلك الوقت فقيراً، اتجهت نفسه إلى عمل يكتسب منه ما يدفع حاجته، ويمنع خصاصته، وصادف في ذلك الوقت أن قدم إلى مكة المكرمة والي اليمن ، فكلمه بعض القرشيين في أن يصحبه الشافعي، فأخذه ذلك الوالي معه، ويقول الشافعي في ذلك: «ولم يكن عند أمي ما تعطيني ما أتحمل به، فرهنت داراً فتحملت معه، فلما قدمنا عملت له على عمل»، وفي هذا العمل تبدو مواهب الشافعي، فيشيع ذكرُه عادلاً ممتازاً، ويتحدث الناس باسمه في بطاح مكة. ولما تولى الشافعي ذلك العمل أقام العدل، وكان الناس يصانعون الولاة والقضاة ويتملقونهم، ليجدوا عندهم سبيلاً إلى نفوسهم، ولكنهم وجدوا في الشافعي عدلاً لا سبيل إلى الاستيلاء على نفسه بالمصانعة والملق، ويقول هو في ذلك: «وليت نجران وبها بنو الحارث بن عبد المدان ، وموالي ثقيف ، وكان الوالي إذا أتاهم صانعوه، فأرادوني على نحو ذلك فلم يجدوا عندي».


لما نزل الشافعي باليمن ، ومن أعمالها نجران ، كان بها والٍ ظالم، فكان الشافعي يأخذ على يديه، أي ينصحه وينهاه، ويمنع مظالمه أن تصل إلى من تحت ولايته، وربما نال الشافعي ذلك الوالي بالنقد، فأخذ ذلك الوالي يكيد له بالدس والسعاية والوشاية. وفي ذلك الزمانِ الذي كان فيه الحكمُ للعباسيين ، كان العباسيون يُعادون خصومَهم العلويين، لأنهم يُدلون بمثل نسبهم، ولهم من رحم الرسول محمد ما ليس لهم، فإذا كانت دولة العباسيين قامت على النسب، فأولئك يَمُتُّون بمثله، وبرحم أقرب، ولذا كانوا إذا رأوا دعوة علوية قضوا عليها وهي في مهدها، ويقتلون في ذلك على الشبهة لا على الجزم واليقين، إذ يرون أن قتل بريء يستقيم به الأمر لهم، أولى من ترك مُتَّهمٍ يَجوز أن يُفسد الأمنَ عليهم.


جاء والي نجران العباسيين من هذه الناحية، واتهم الشافعي بأنه مع العلوية ، فأرسل إلى الخليفة هارون الرشيد : «إن تسعة من العلوية تحرَّكوا»، ثم قال في كتابه: «إني أخاف أن يخرجوا، وإن ها هنا رجلاً من ولد شافع المطلبي لا أمر لي معه ولا نهي»، وقيل أنه قال في الشافعي: «يعمل بلسانه ما لا يقدر عليه المقاتل بسيفه»، فأرسل الرشيد أن يَحضرَ أولئك النفرُ التسعةُ من العلوية ومعهم الشافعي. ويقال أنه قتل التسعة، ونجا الشافعي؛ بقوة حجته، وشهادة القاضي محمد بن الحسن الشيباني ، أما قوة حجته فكانت بقوله للرشيد وقد وجه إليه التهمةَ بين النطع والسيف: «يا أمير المؤمنين، ما تقول في رجلين أحدهما يراني أخاه، والآخر يراني عبده، أيهما أحب إلي؟»، قال: «الذي يراك أخاه»، قال: «فذاك أنت يا أمير المؤمنين، إنكم ولد العباس ، وهم ولد علي ، ونحن بنو المطلب ، فأنتم ولد العباس تروننا إخوتكم، وهم يروننا عبيدهم».


وأما شهادة محمد بن الحسن الشيباني فذلك لأن الشافعي استأنس لما رآه في مجلس الرشيد عند الاتهام، فذكر بعد أن ساق ما ساق أن له حظاً من العلم والفقه، وأن القاضي محمداً بن الحسن يعرف ذلك، فسأل الرشيدُ محمداً، فقال: «له من العلم حظٌ كبير، وليس الذي رُفع عليه من شأنه»، قال: «فخذه إليك حتى انظرَ في أمره»، وبهذا نجا. كان قدوم الشافعي بغداد في هذه المحنة سنة هـ ، أي وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، فكانت هذه المحنة خيراً له، فقد وجَّهته إلى العلم بدل الولاية وتدبير شؤون السلطان، ذلك بأنه نزل عند محمد بن الحسن، وكان من قبلُ يسمع باسمه وفقهه، وأنه حاملُ فقه العراقيين وناشرُه، وربما التقى به من قبل. أخذ الشافعي يدرس فقه العراقيين، فقرأ كتب الإمام محمد وتلقاها عليه، وبذلك اجتمع له فقه الحجاز وفقه العراق ، اجتمع له الفقه الذي يغلب عليه النقل، والفقه الذي يغلب عليه العقل، وتخرج بذلك على كبار الفقهاء في زمانه، ولقد قال في ذلك ابن حجر : «انتهت رياسة الفقه في المدينة إلى مالك بن أنس ، فرحل إليه ولازمه وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه في العراق إلى أبي حنيفة ، فأخذ عن صاحبه محمد بن الحسن حملاً، ليس فيه شيء إلا وقد سمعه عليه، فاجتمع علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث، فتصرف في ذلك حتى أصَّل الأصول، وقعَّد القواعد، وأذعن له الموافق والمخالف، واشتهر أمره، وعلا ذكره، وارتفع قدره حتى صار منه ما صار».


وقد كان الشافعي يلزم حلقة محمد بن الحسن الشيباني ، قال الشافعي: «أنفقت على كتب محمد بن الحسن ستين ديناراً، ثم تدبرتها، فوضعت إلى جنب كل مسألة حديثاً يعني: رداً عليه »، ولكنه كان مع ذلك يعتبر نفسه من صحابة مالك، ومن فقهاء مذهبه، وحملة موطأه، يحامي عليه ويذب عنه ويدافع عن فقه أهل المدينة، ولذلك كان إذا قام محمد من مجلسه ناظر أصحابه، ودافع عن فقه الحجازيين وطريقتهم، قال الشافعي: « وكان محمد بن الحسن جيد المنزلة، فاختلفت إليه وقلت: هذا أشبه لي من طريق العلم، فلزمته، وكتبت كتبه، وعرفت قولهم، وكان إذا قام ناظرت أصحابه »، [48] ولعله كان لا يناظر محمداً نفسَه إعظاماً لمكان الأستاذ، ولكن محمداً بلغه أنه يناظر أصحابه، فطلب منه أن يناظره، فاستحيا وامتنع، وأصر محمد، فناظره مستكرهاً في مسألة كَثُرَ استنكارُ أهل العراق فيها لرأي أهل الحجاز ، وهي «مسألة الشاهد واليمين»، فناقش الشافعيُ محمداً فيها، ويقول الرواة من الشافعية أن الفلحَ كان للشافعي.


أقام الشافعي في بغداد تلميذاً لابن حسن، ومناظراً له ولأصحابه على أنه فقيه مدني من أصحاب مالك، ثم انتقل بعد ذلك إلى مكة، ومعه من كتب العراقيين حِملُ بعير، ولم يذكر أكثرُ الرواة مدة إقامته في بغداد في هذه القدمة، ولا بد أنه أقام مدة معقولة تكفي للتخرج على أهل الرأي ومدارستِهم، ولعلها كانت نحو سنتين. عاد الشافعي إلى مكة ، وأخذ يُلقي دروسه في الحرم المكي ، والتقى به أكبر العلماء في موسم الحج ، واستمعوا إليه، وفي هذا الوقت التقى به أحمد بن حنبل ، وقد أخذت شخصية الشافعي تظهر بفقه جديد، لا هو فقهُ أهلِ المدينةِ وحدَهم، ولا فقهَ أهلِ العراقِ وحدَهم، بل هو مزيج منهما وخلاصةُ عقل الشافعي الذي أنضجه علم الكتاب والسنة، وعلمُ العربية وأخبار الناس والقياس والرأي، ولذلك كان من يلتقي به من العلماء يرى فيه عالماً هو نسيجٌ وحدَه.


أقام الشافعي بمكة في هذه القدمة نحواً من تسع سنوات، ولا بد أن الشافعي بعد أن رأى نوعين مختلفين من الفقه، وبعد أن ناظر وجادل، وجد أنه لا بد من وضع مقاييس لمعرفة الحق من الباطل، أو على الأقل لمعرفة ما هو أقرب للحق، فإنه ليس من المعقول بعد أن شاهد وعاين ما بين نظرِ الحجازيين والعراقيين من اختلاف، ولأصحاب النظرين مكانٌ من احترامه وتقديره، أن يحكمَ ببطلان أحدِ النظرين جملةً من غير ميزان ضابط دقيق، لهذا فكَّر في استخراج قواعد الاستنباط، فتوافر على الكتاب يعرف طرق دلالاته، وعلى الأحكام يعرف ناسخها ومنسوخها ، وخصائص كل منهما، وعلى السنة يعرف مكانها من علم الشريعة ، ومعرفة صحيحها وسقيمها، وطرق الاستدلال بها، ومقامها من القرآن الكريم، ثم كيف يستخرج الأحكام إذا لم يكن كتاب ولا سنة، وما ضوابط الاجتهاد في هذا المقام، وما الحدود التي تُرسَم للمجتهد فلا يعدوها، ليأمن من شطط الاجتهاد.


لأجل هذا طال مقامه، مع أنه كان صاحب سفر، فهو لا بد في هذه الأثناء قد انتهى إلى وضع أصول الاستنباط وخرج بها على الناس، ولعله عندما انتهى إلى قدر يصحُّ إخراجُه وعرضُه للجمهرة من الفقهاء، سافر إلى بغداد التي كانت عشَّ الفقهاء جميعاً، إذ ضَؤلَ أمرُ المدينة بعد وفاة الإمام مالك، وبعد أن صار ببغداد أهلُ الرأي وأهلُ الحديث معاً. قدم الشافعي بغداد للمرة الثانية في سنة هـ ، وقد قدم وله طريقةٌ في الفقه لم يسبق بها، وجاء وهو لا ينظر إلى الفروع يفصِّل أحكامَها وإلى المسائل الجزئية يفتي فيها فقط، بل جاء وهو يحمل قواعد كلية، أصَّل أصولها، وضبط بها المسائل الجزئية، فقد جاء إذن بالفقه علماً كلياً لا فروعاً جزئيةً، وقواعدَ عامةً لا فتاوىً وأقضيةً خاصةً، فرأت فيه بغداد ذلك، فانسال عليه العلماء والمتفقهون، وطلبه المحدثون وأهل الرأي جميعاً. وفي هذه القدمة ذُكر أنه ألف لأول مرة من كتاب الرسالة الذي وضع به الأساس لعلم أصول الفقه.


وقد رُوي أن عبد الرحمن بن مهدي التمس من الشافعي وهو شاب أن يضع له كتاباً يذكر فيه شرائط الاستدلال بالقرآن والسنة والإجماع والقياس وبيان الناسخ والمنسوخ ومراتب العموم والخصوص، فوضع الشافعي كتاب الرسالة وبعثه إليه، فلما قرأه عبد الرحمن بن مهدي قال: «ما أظن أن الله عز وجل خلق مثل هذا الرجل»، وقيل أن الشافعي قد صنف كتاب الرسالة وهو ببغداد، ولما رجع إلى مصر أعاد تصنيف كتاب الرسالة. أخذ الشافعي ينشر بالعراق تلك الطريقةَ الجديدةَ التي استنَّها، ويجادلُ على أساسها، وينقد مسائل العلم على أصولها، ويؤلف الكتب وينشر الرسائل، ويتخرج عليه رجالُ الفقه، ومكث في هذه القدمة سنتين، ثم عاد بعد ذلك إليها سنة هـ وأقام أشهراً فيها، ثم اعتزم السفر إلى مصر ، فرحل إليها، وقد وصل سنة هـ. أما سببُ تقصيرِه الإقامةَ في بغداد في هذه القدمة الأخيرة، مع أنها كانت عشَّ العلماء، وقد صار له بها تلاميذُ ومريدون، والعلم ينتشر بين ربوعها، ولم يكن لمصر في ذلك الوقت مكانةٌ علميةٌ كمكانة بغداد أو تقاربها، فهو أنه في سنة هـ كانت الخلافة لعبد الله المأمون ، وفي عهد المأمون ساد أمر لا يستطيب الشافعيُ الإقامةَ في ظله، وهو أن المأمون كان من الفلاسفة المتكلمين ، فأدنى إليه المعتزلة ، وجعل منهم كُتَّابَه وحُجَّابَه وجلساءَه، والمقرَّبين إليه الأدنين، والمحكَّمين في العلم وأهله، والشافعي كان ينفر من المعتزلة ومناهج بحثهم، ويفرض عقوبة على بعض من يخوض مثل خوضهم، ويتكلم في العقائد على طريقتهم، فما كان لمثل الشافعي أن يرضى بالمقام معهم، وتحت ظل الخليفة الذي مكَّن لهم، حتى أدَّاه الأمرُ بعد ذلك إلى أن أنزل بالفقهاء والمحدثين المحنة التي تسمى محنة خلق القرآن ، وروي أن المأمون عرض على الشافعي أن يولِّيَه القضاء، فاعتذر الشافعي.


لم يَطِبْ للشافعي المقامُ ببغداد ، وكان لا بد من الرحيل منها، ولم يجد مهاجَراً ولا سَعةً إلا في مصر ، ذلك أن واليَها عباسيٌ هاشميٌ قرشيٌ ، قال ياقوت الحموي : «وكان سبب قدومه إلى مصر أن العباس بن عبد الله بن العباس بن موسى بن عبد الله بن عباس دعاه، وكان العباسُ هذا خليفةً لعبد الله المأمون على مصر». ولقد قال الشافعي عندما أراد السفر إلى مصر: [55]. قدم الشافعي مصر سنة هـ ، ومات فيها سنة هـ ، وقد رُوي عن الربيع بن سليمان أنه قال: وقال لي يوماً يقصد الشافعي : «كيف تركت أهل مصر؟»، فقلت: «تركتهم على ضربين: فرقةٌ منهم قد مالت إلى قول مالك ، وأخذت به واعتمدت عليه وذبَّت عنه وناضلت عنه، وفرقةٌ قد مالت إلى قول أبي حنيفة ، فأخذت به وناضلت عنه»، فقال: «أرجو أن أقدم مصر إن شاء الله، وآتيهم بشيء أشغلهم به عن القولين جميعاً». قال الربيع: «ففعل ذلك والله حين دخل مصر». ولما قدم الشافعي مصر نزل على أخواله الأزد ، قال ياسين بن عبد الواحد: لما قدم علينا الشافعي مصر، أتاه جَدِّي وأنا معه فسأله أن ينزلَ عليه، فأبى وقال: «إني أريد أن أنزل على أخوالي الأزد»، فنزل عليهم.


وقد ذكر الإمام أحمد أن الشافعي قصد من نزوله على أخواله متابعةَ السنةِ فيما فعل النبي حين قدم المدينة من النزول على أخواله، فقد نزل النبي حين قدم المدينة على بني النجار، وهم أخوال عبد المطلب. وقال هارون بن سعد الأيلي: ما رأيت مثل الشافعي، قدم علينا مصر، فقالوا: «قدم رجلٌ من قريش»، فجئناه وهو يصلي، فما رأيت أحسنَ صلاةً منه، ولا أحسنَ وجهاً منه، فلما قضى صلاته تكلم، فما رأيت أحسنَ كلاماً منه، فافتتنَّا به. ويروي الفخر الرازي : «أن الشافعي إنما وضع الكتاب على مالك لأنه بلغه أن بالأندلس قلنسوة لمالك يُستقى بها، وكان يقال لهم قال رسول الله ﷺ فيقولون قولَ مالك، فقال الشافعي: «إن مالكاً آدمي قد يخطئ ويغلط»، فصار ذلك داعياً للشافعي إلى وضع الكتاب على مالك، وكان يقول: « كرهت أن أفعل ذلك، ولكني استخرت الله تعالى فيه سنة »».


أدى نقدُ الشافعي للإمام مالك إلى وقوعه في المتاعب والمصاعب، وذلك لأن الإمامَ مالكاً كان له المكانُ الأولُ بين المجتهدين في مصر، فثار على الشافعي المالكيون ينقُدونه ويجرِّحونه ويطعنون عليه، حتى ذهب جمهرتُهم إلى الوالي يطلبون إخراجَه، ويقول في ذلك الرازي : «لما وضع الشافعيُّ كتابَه على مالك ذهب أصحابُ مالك إلى السلطان والتمسوا منه إخراج الشافعي». ولم ينقد الشافعي آراء مالك فقط، بل نقد مِن قبلُ آراءَ العراقيين أبي حنيفة وأصحابِه وغيرِهم من فقهاء العراق ، كما نقد آراءَ الأوزاعي ، وكان لكل هؤلاء أنصارٌ من رجال الفقه في عهده، يتعصبون لهم وينافحون عنهم، فبنقدهم انبثق على الشافعي البثقُ الكبيرُ من الجدل والمناظرة، فكان يجادل ويصاول، من غير أن يمسَّ صاحبَ الرأي بسوء.


كان الشافعي يميل في جداله دائماً إلى نصرة الحديث ورجال الحديث، مع علمه بالجدل وأساليبه، وقد بهت أهلَ الرأي في أول التقائه بهم في بغداد سنة هـ ، ويقول الرازي في ذلك: [62]. ولما أصَّل الأصولَ ووضع القواعدَ، وجد أن بعض الفقهاء من أهل الحجاز يخرج على هذه الأصول ولا يتقيد بها، ومنهم شيخه الإمام مالك، فوجده يأخذ بالأصل ويترك الفرع، ويأخذ الفرع ويترك الأصل، فجادل أهل الحجاز أيضاً، وبذلك قضى حياته كلَّها في نضال لأجل فقه الشريعة الإسلامية. عندما أراد الشافعي السفر إلى مصر قال هذه الأبيات:. قيل: فوالله لقد سيق إليهما جميعاً. وكان يقال لهم: «قال رسول الله». فيقولون: «قال مالك». فقال الشافعي: «إن مالكاً بَشَرٌ يخطئ». فدعاه ذلك إلى تصنيف الكتاب في اختلافه معه». ثم ألف الإمام الشافعي كتاباً يرد به على الإمام مالك وفقهه، فغضب منه المالكيون المصريون بسبب الكتاب وأخذوا يحاربون الشافعي، وتعرض للشتم القبيح المنكَر من عوامهم، والدعاء عليه من علمائهم.


يقول الكندي: لما دخل الشافعي مصر، كان ابن المنكدر يصيح خلفه: «دخلتَ هذه البلدة وأمرنا واحد، ففرّقت بيننا وألقيت بيننا الشر. فرّقَ الله بين روحك وجسمك». وكان أشهب يدعو في سجوده بالموت على الإمام الشافعي. وروى ابن عساكر عن محمد بن عبد الله بن عبدِ الْحَكَمِ أَنَّ أَشْهَبَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: «اللَّهُمَّ أَمِتْ الشَّافِعِيَّ، فَإِنَّكَ إِنْ أَبْقَيْتَهُ اِنْدَرَسَ مَذْهَبُ مَالِكٍِ». وروى ذلك ابن مندة عن الربيع أنه رأى أشهب يقول ذلك في سجوده. ثم قام المالكية بضرب الإمام الشافعي ضرباً عنيفاً بالهراوات حتى تسبب هذا بقتله وعمره 54 عاماً فقط، ودُفن بمصر. ويقال أن سبب موت الشافعي هو مرض البواسير الذي أصابه، فقد روى الربيع بن سليمان حالَ الشافعي في آخر حياته فقال: «أقام الشافعي ها هنا أي في مصر أربع سنين، فأملى ألفاً وخمسمئة ورقة، وخرَّج كتاب الأم ألفي ورقة، وكتاب السنن، وأشياء كثيرة كلها في مدة أربع سنين، وكان عليلاً شديد العلة، وربما خرج الدم وهو راكب حتى تمتلئ سراويله وخفه يعني من البواسير ».


وقال الربيع أيضاً: دخل المزنيَّ على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقال له: «كيف أصبحت يا أستاذ؟»، فقال: « أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولسوء عملي ملاقياً ». قال: ثم رمى بطرفه إلى السماء واستبشر وأنشد: [67] [68]. ومات الشافعي، في آخر ليلة من رجب سنة هـ ، وقد بلغ من العمر أربعة وخمسين عاماً، [55] [69] قال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري: «وُلد الشافعي سنة خمسين ومائة، ومات في آخر يوم من رجب، سنة أربع ومائتين، عاش أربعاً وخمسين سنة»، [23] وقال الربيع بن سليمان : «توفي الشافعي ليلة الجمعة ، بعد العشاء الآخرة بعدما صلى المغرب آخر يوم من رجب ، ودفناه يوم الجمعة، فانصرفنا، فرأينا هلال شعبان ، سنة أربع ومائتين». ضريح الإمام الشافعي أو قبة الإمام الشافعي عبارة عن غرفة تشغل مسطحاً مربعاً محاطاً بأربعة حوائط سميكة، وبُنيت قبة على ذلك المربع، تصل إلى ارتفاع 27 متراً من سطح الأرض، وتتكون القبة من طبقتين: الأولى خشبية داخلية، والثانية خارجية مصنوعة من الرصاص ، وللضريح ثلاثة محاريب تتجه نحو مكة ، عند حائط اتجاه قبلة الصلاة، وهناك باب في كل من الحائطين الشرقي والشمالي، والحوائط الداخلية مغطاة بالرخام.


وقد بنى السلطان صلاح الدين ناووساً تابوتاً وضعه فوق قبر الإمام الشافعي في عام هـ الموافق م ، والناووس مصنوع من خشب الساج الهندي، ومزخرفٌ بحُلْية دقيقةٍ وآياتٍ من القرآن، وبعد ذلك بُني مسجدٌ يضم ضريح الإمام الشافعي، ويوجد فوق قمة القبة من الخارج عشارى من النحاس الأصفر ، وترمز إلى عِلم الإمام الشافعي. ويعد هذا الضريحُ واحداً من أكبر الأضرحة المفردة في مصر. لقد شغل الشافعيُّ الناسَ بعلمه وعقله، شغلهم في بغداد وقد نازل أهل الرأي، وشغلهم في مكة وقد ابتدأ يَخرج عليهم بفقه جديد يتجه إلى الكليات بدل الجزئيات، والأصول بدل الفروع، وشغلهم في بغداد وقد أخذ يدرس خلافات الفقهاء وخلافات بعض الصحابة على أصوله التي اهتدى إليها.


فقد أوتي الشافعي علم اللغة العربية ، وأوتي علم الكتاب ، ففَقِهَ معانيه، وطبَّ أسراره ومراميه، وقد ألقى شيئاً من ذلك في دروسه، قال بعض تلاميذه: «كان الشافعي إذا أخذ في التفسير كأنه شاهد التنزيل»، وأوتي علم الحديث ، فحفظ موطأ مالك ، وضبط قواعد السُّنَّة ، وفهم مراميها والاستشهاد بها، ومعرفة الناسخ والمنسوخ منها، وأوتي فقه الرأي والقياس ، ووضع ضوابط القياس والموازين، لمعرفة صحيحه وسقيمه، وكان يدعو إلى طلب العلوم، فقد كان يقول: « من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن نظر في اللغة رق طبعه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه ». وكان مجلسه للعلم جامعاً للنظر في عدد من العلوم، قال الربيع بن سليمان :. ومما روي عن ذكائه أنه كان ذاتَ مرةٍ جالساً مع الحميدي ومحمد بن حسن يتفرسون الناس، فمر رجل فقال محمد بن الحسن: «يا أبا عبد الله انظر في هذا»، فنظر إليه وأطال، فقال ابن الحسن: «أعياك أمره؟»، قال: «أعياني أمره، لا أدري خياط أو نجار»، قال الحميدي: فقمت إليه فقلت له: «ما صناعة الرجل؟»، قال: «كنت نجاراً وأنا اليوم خياط».


كان الشافعي متواضعاً مع كثرة علمه وتنوعه، ومما يدل على ذلك قوله: «ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، وما في قلبي من علم إلا وددت أنه عند كل أحد ولا ينسب إلي»، وعن الربيع بن سليمان أنه قال: «سمعت الشافعي، ودخلت عليه وهو مريض، فذكر ما وضع من كتبه، فقال: لوددت أن الخلق تعلمه، ولم ينسب إلي منه شيء أبداً»، وعن حرملة بن يحيى أنه قال: سمعت الشافعي يقول: «وددت أن كل علم أعلَمه تعلَمه الناس، أوجر عليه ولا يحمدوني». كما كان الشافعي معروفاً بالكرم والسخاء، ومن ذلك ما قاله الربيع بن سليمان : تزوجت، فسألني الشافعي: «كم أصدقتها؟»، فقلت: «ثلاثين ديناراً»، فقال: «كم أعطيتها؟»، قلت: «ستة دنانير»، فصعد داره، وأرسل إلي بصرَّة فيها أربعة وعشرون ديناراً.


كان الشافعي ورعاً كثير العبادة، فقد كان يختم القرآن في كل ليلة ختمة، فإذا كان شهر رمضان ختم في كل ليلة منها ختمة، وفي كل يوم ختمة، وكان يختم في شهر رمضان ستين ختمة. وقال الحسين بن علي الكرابيسي: «بتُّ مع الشافعي ثمانين ليلة، كان يصلي نحو ثلث الليل، لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوّذ بالله منها، وسأل النجاة لنفسه ولجميع المسلمين، وكأنما جُمع له الرجاءُ والرهبةُ». ومما روي عن ورعه ما قاله الحارث بن سريج: «أراد الشافعي الخروج إلى مكة، فأسلم إلى قصّارٍ ثياباً بغداديةً مرتفعةً، فوقع الحريق، فاحترق دكان القصار والثياب، فجاء القصارُ ومعه قومٌ يتحمل بهم على الشافعي في تأخيره ليدفع قيمة الثياب، فقال له الشافعي: قد اختلف أهل العلم في تضمين القصّار، ولم أتبين أن الضمان يجب، فلست أضمنك شيئاً».


ومن أشعار الشافعي في الزهد:. وقال الحارث بن سريج: دخلت مع الشافعي على خادم للرشيد، وهو في بيت قد فرش بالديباج، فلما وَضع الشافعيُ رجلَه على العتبة أبصره أي أبصر الديباج ، فرجع ولم يدخل، فقال له الخادم: «ادخل»، فقال: «لا يحل افتراشُ هذا»، فقام الخادمُ متمشياً، حتى دخل بيتاً قد فرش بالأرمني، فدخل الشافعي، ثم أقبل عليه فقال: «هذا حلال، وذاك حرام، وهذا أحسن من ذاك وأكثر ثمناً منه»، فتبسم الخادم، وسكت. وعن الربيع بن سليمان أنه قال: قال الشافعي: «ما شبعت منذ ست عشرة سنة إلا شبعةً اطّرحتها يعني فطرحتها ؛ لأن الشبعَ يثقل البدن، ويقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة». كان الشافعيُّ يدعو إلى طلب العلم فيقول: « من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن كتب الحديث قويت حجته، ومن نظر في الفقه نبُل قدره، ومن نظر في اللغة رَقَّ طبعُه، ومن نظر في الحساب جزل رأيه، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه ». وعن الحميدي أنه قال: «كان الشافعي ربما ألقى علي وعلى ابنه أبي عثمان المسألة، فيقول: «أيكما أصاب فله دينار»»، وعن الربيع بن سليمان أنه قال: سمعت الشافعي يقول: «طلب العلم أفضل من صلاة النافلة».


تلقى الشافعي الفقه والحديث على شيوخ قد تباعدت أماكنهم، وتخالفت مناهجهم، حتى لقد كان بعضهم معتزلياً ممن كانوا يشتغلون بعلم الكلام الذي كان الشافعي ينهى عنه، ولقد نال منهم ما رآه خيراً، فأخذ ما يراه واجبَ الأخذ، وترك ما يراه واجبَ الرد. لقد أخذ الشافعي عن شيوخ بمكة وشيوخ بالمدينة وشيوخ باليمن وشيوخ بالعراق ، ومشايخُه الذين روى عنهم كثيرون، أما المشهورون منهم والذين كانوا من أهل الفقه والفتوى فهم عشرون، خمسة مكية، وستة مدنية، وأربعة يمانية، وخمسة عراقية. وأما الذين من أهل المدينة فهم:. وأما الذين من أهل العراق فهم:. ومن هذا السياق يُستفاد أن الشافعي قد تلقى العلم على عدد من الشيوخ أصحابِ المذاهب والنزعات المختلفة، وبذلك يكون قد تلقى فقهَ أكثرِ المذاهب التي قامت في عصره، فتلقى فقه الإمام مالك عليه، وكان هو الأستاذ في شيوخه، وتلقى فقه الأوزاعي عن صاحبه عمرو بن أبي سلمة، وتلقى فقه الليث بن سعد فقيه مصر عن صاحبه يحيى بن حسان، ثم تلقى فقه أبي حنيفة وأصحابه على محمد بن الحسن الشيباني.


وهكذا اجتمع له فقه مكة والمدينة والشام ومصر والعراق ، ولم يجد حرجاً في أن يطلب الفقه عند من اشتهر بالاعتزال وعُرف أنه لا يَسلُكُ في طلب أصول الاعتقاد مسلك أهل الحديث والفقه، [92] وإن رحلاتِه العلميةَ جعلته لا يقتصر في دراسته على فقهاء أهل السنة والجماعة الذين دخلوا في طاعة الخلفاء، بل كان يدرس آراء الشيعة وغيرِهم، ويظهر أثر ذلك في ثنائه على بعض علمائهم، فقد روي عنه أنه قال: « من أراد الفقه فهو عيال على أبي حنيفة ، ومن أراد السِّيَرَ فهو عيال على محمد بن إسحاق ، ومن أراد الحديث فهو عيال على مالك ، ومن أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان »، ومقاتل بن سليمان هذا الذي جعله الشافعي إمام التفسير شيعي زيدي. أنجب الشافعي أربعة أبناء هم: محمد أبو عثمان ، وفاطمة، وزينب من أم واحدة، ومحمد أبو الحسن من جاريته المسماة دنانير. أما محمد بن الشافعي: فهو الشيخ أبو عثمان القاضي ، وهو أكبر أولاد الشافعي، ولما توفي والده كان بالغاً مقيماً بمكة ، وهو الذي قال له الإمام أحمد بن حنبل : «إني لأحبك لثلاث خلال: أنك ابن أبي عبد الله، وأنك رجل من قريش ، وأنك من أهل السنة ».


قيل أنه ولي القضاء ببغداد ، وقيل أن هذا غير صحيح، إنما ولي القضاء بالجزيرة العربية وأعمالها، وولي أيضاً القضاء بمدينة حلب ، وبقي بها سنين كثيرة، وأعقب ثلاثة بنين منهم: العباس بن محمد بن محمد بن إدريس. وقد قيل للشافعي: «ما اسم أبي عثمان؟»، فقال: «سميته أحب الأسماء إلي: محمداً». ولأبي عثمان مناظرة مع الإمام أحمد بن حنبل في جلود الميتة إذا دُبغت. وعن محمد بن محمد بن إدريس الشافعي أنه قال: قال لي أحمد ابن حنبل: «أبوك أحد الستة الذين أدعو لهم في السحر». توفي بالجزيرة بعد سنة أربعين ومائتين هـ. وللشافعي ولد آخر يسمى محمداً أيضاً، وكنيته أبو الحسن، وهو من جارية اسمها دنانير، قيل أنه قدم مصر مع أبيه وهو صغير، فتوفي بها في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين هـ. وأما ابنته فاطمة فقد روي أنها لم تعقب. للشافعي الكثير من المصنفات في أصول الفقه وفروعه، أما الكتب التي تجمع أصول الفقه وتدل على الفروع فهي: []. وهناك كتب مصنفة في الفروع، وقد جمعت كلها في كتاب واحد اسمه كتاب الأم. وله كتاب في الطهارة، وكتاب في الصلاة، وكتاب في الزكاة، وكتاب في الحج، وكتاب في النكاح وما في معناه، وكتاب في الطلاق وما في معناه، وفي الإيلاء والظهار واللعان والنفقات، أملاها على أصحابه، ورواها عنه الربيع بن سليمان المرادي.


قال الإمام النووي في بستان العارفين :. كان الشافعي أديباً وشاعراً فصيحاً بالإضافة إلى معرفته للعلوم الشرعية الإسلامية، فقد ارتحل الشافعي إلى البادية في صغره، ولازم قبيلة هذيل التي كانت أفصح العرب وتعلَّمَ كلامها، وقد بلغ علمه في اللغة العربية أن الأصمعي الذي له مكانة عالية في اللغة قال: «صححت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس». ويتميز شعرُ الشافعي أنه لم يكن يَقصد منه التكسُّبَ أو التقربَ إلى أصحاب المال والجاه والسلطان، بل كان شعرُه في أغلبه يتناول الحكمة ومناجاة الخالق، والدعاء والاستغفار والتندم على المعاصي. ولذلك انتشر شعره بين الناس، ولا يزال شعره متداولاً حتى الآن، وصارت بعض أبياته أمثالاً يتداولها الناس في حياتهم اليومية. ومن قصائده المشهورة: []. وله أيضاً: []. روي عن أبي هريرة عن النبي محمد أنه قال: « اللهم اهد قريشاً فإن عالمها يملأ طباق الأرض علماً، اللهم كما أذقتهم عذاباً فأذقهم نوالاً »، ودعا بها ثلاث مرات، قال عبد الملك بن محمد أبو نعيم: هذه الصفة لا تنطبق إلا على الشافعي رضيَ الله عنه. وروي عن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبراً، قلت فيها بقول الشافعي رضيَ الله عنه، لأنه إمامٌ عالمٌ من قريش، وقد رُوي عن النبي ﷺ أنه قال: « عالم قريش يملأ الأرض علماً ».


قال عبد الملك الميموني : كنت عند أحمد بن حنبل ، وجرى ذكر الشافعي، فرأيت أحمد يرفعه، وقال: يُروى عن النبي ﷺ : « إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يقرر لها دينها »، فكان عمر بن عبد العزيز رضيَ الله عنه على رأس المائة، وأرجو أن يكون الشافعي عل رأس المائة الأخرى. وعن إسحاق بن راهويه أنه قال: كنا بمكة والشافعي بها، وأحمد بن حنبل بها، فقال لي أحمد بن حنبل: «يا أبا يعقوب، جالس هذا الرجل يعني: الشافعي »، قلت: «ما أصنع به، وسنه قريب من سننا؟ أترك ابن عيينة والمقبري؟»، فقال: «ويحك! إن ذاك يفوت، وذا لا يفوت»، فجالسته. وعن أحمد بن حنبل أنه قال: «كانت أقفيتُنا أصحابَ الحديث في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تُنزع، حتى رأينا الشافعي رضيَ الله عنه، وكان أفقه الناس في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسول الله ﷺ ، ما كان يكفيه قليل الطلب في الحديث».


وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي: «أي رجل كان الشافعي، فإني أسمعك تكثر من الدعاء له؟»، فقال لي: «يا بني، كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عِوض». أثنى على الشافعي الكثيرُ من العلماء والفقهاء، وكان مما روي في مدحه والثناء عليه: قول أبو عبيد القاسم بن سلام: «ما رأيت رجلاً أعقل من الشافعي»، وفي رواية: «ما رأيت رجلاً قط أعقل ولا أورع ولا أفصح من الشافعي». وقال يونس بن عبد الأعلى: «ما رأيت أحداً أعقل من الشافعي، لو جمعت أمة فجعلت في عقل الشافعي، لوسعهم عقله». وقال أبو ثور : كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي رضيَ الله عنه وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ المنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة، قال عبد الرحمن: «ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو الله للشافعي فيها».


وعن أيوب بن سويد الرملي أنه قال لما رأى الشافعي: «ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل هذا الرجل قط». اجتهد الشافعي بمكة ، ودرس أهلُ العراق مذهبه، ولكن العلماء في ذلك الوقت لم يكونوا قد سلكوا الطريق المذهبي في دراستهم، بل كان كل عالم يجتهد فيما يعرض له من المسائل اجتهاداً حراً، وقد يستعين بدراسة غيره، ليستن لنفسه طريقاً، وليكون له رأياً من غير أن يتقيد بطريق من استعان به، ولا برأيه، ولم يكن ثمة تقليد إلا تقليد العامة لمن يستفتونهم من العلماء، لذلك لم تصبح هذه البلاد شافعية باجتهاد الشافعي فيها، أو دراسته لأهلها. ولما أخذت ريح التقليد تهب بعد أن اختار المجتهدون أو بعضُهم طريقة بعض الأئمة في الاجتهاد ، ثم صار أهل الإقليم يقلدون إماماً، ويختارون مذهبه، كان المذهب الشافعي قد استقر في مصر، واستقام أهلها على طريقته، إذ شُغل الناسُ بدراسته عن المذهب المالكي الذي كان غالباً، والمذهب الحنفي الذي كان معروفاً، لذلك كانت مصرُ المكانَ الذي صدر عنه المذهب الشافعي.


وقد جاء في طبقات ابن السبكي عن مصر والشام بالنسبة للمذهب الشافعي: هذان الإقليمان مركز ملك الشافعية منذ ظهر مذهب الشافعية، اليد العالية لأصحابه في هذه البلاد، لا يكون القضاء والخطابة في غيرهم. انتشر المذهب الشافعي بعد مقامه في مصر، فظهر في العراق، وكثر أتباعه في بغداد، وغلب على كثير من بلاد خراسان وتوران والشام واليمن ، ودخل ما وراء النهر ، وبلاد فارس والحجاز وتهامة ، وبعض بلاد الهند ، وتسرب إلى بعض شمال أفريقيا ، والأندلس بعد سنة هـ. فأما مصر التي تعتبر الموطنَ الأولَ للمذهب الشافعي، فكان هو السائدَ فيها بعد أن تغلب على المذهبين الحنفي والمالكي ، واستمر كذلك إلى أن جاءت الدولة الفاطمية فأبطلت العمل به، وجعلت العمل على مقتضى مذهب الشيعة الإمامية ، حتى جاء السلطان صلاح الدين الأيوبي فأسقط سلطانهم، وأحيا المذاهب المعروفة وأبطل العمل بالمذهب الشيعي، وجعل للمذهب الشافعي الحظَّ الأكبر من عنايته وعناية من جاءوا بعده من الأيوبيين ، فقد كانوا جميعاً شافعيةً إلا عيسى بن العادل أبي بكر سلطان الشام، فإنه كان حنفياً.


ولما خلفت دولةُ المماليك البحرية دولة الأيوبيين، لم تنقص خطوة المذهب الشافعي، فقد كان سلاطينها من الشافعيين، إلا سيف الدين قطز الذي كان حنفياً، ولقد كان القضاء على المذهب الشافعي مدة هذه الدولة كسابقتها، إلى أن أحدث الظاهر بيبرس فكرة أن يكون القضاة أربعة، لكل مذهب قاضٍ يقضي بموجب مذهبه، ولكن جعل للشافعي مكاناً أعلى من سائر الأربعة. واستمرت الحال في دولة المماليك الجراكسة كما كانت في سابقتها حتى سيطر العثمانيون على ملك مصر، فأبطلوا القضاء بالمذاهب الأربعة واختصاص الشافعي بالمكانة العالية، وحصروا القضاء في المذهب الحنفي لأنه مذهبُهم، ولم يزل الأمر كذلك إلى اليوم، إلا أنه قد أُخذ الاقتباسُ من المذاهب الأخرى في الأحوال الشخصية والوقف والمواريث والوصايا، وهي المسائل التي بقي القضاء فيها على مقتضى أحكام الشريعة الإسلامية دون سواها.


وإذا كان المذهب الشافعي قد فقد مكانته الرسمية في الدولة، فقد بقيت له منزلته في الشعب المصري ، فإنه هو والمذهب المالكي قد تغلغلا في نفس الشعب المصري، حتى إن هذا الشعب يتديَّن في عبادته على مقتضى هذين المذهبين في ريف مصر وقراها إلى يومنا هذا، فالناس في ريف مصر في عباداتهم يختارون هذين المذهبين، والمالكي أغلب صعيد مصر ، والشافعي في الوجه البحري. ويقول أحمد شلبي: «مذهب الشافعي هو مذهب الأغلبية الساحقة من سكان مصر»، [] ولا يزال يُدرس المذهب الشافعي بحماسة في الجامع الأزهر. وأما في السودان فإن المذهب المالكي هو السائد، إلا أن بعض المناطق في شرق السودان كانت شافعية، وقد يعود ذلك إلى تأثير الدول المجاورة بالإضافة إلى مكة واليمن.


كان أهل الشام على مذهب الأوزاعي حتى وُلِّي قضاء دمشق بعد قضاء مصر أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقي الشافعي، والذي توفي بدمشق سنة هـ ، ولا بد أن المذهب الشافعي كان قد سرى إلى الشام من مصر، لما بينهما من جوار، وللهجرة التي كان يقوم بها العلماء، ولكن لأنه أولُ قاضٍ شافعي وُلي قضاء الشام، وكان القاضي قبل ذلك أوزاعياً، فقد عمل بنفوذه على إحلال ذلك المذهب محل مذهب الأوزاعي، وكان يشجع على حفظه ومعرفته بالهبات، فقد رُوي أنه كان يهب لمن يحفظ مختصر المزنيِّ منه مئة دينار. وبتوالي القضاة الشافعيين على الشام أخذ مذهب الأوزاعي في الانقراض، ومذهب الشافعي في الغلب، ولم يتم له الغلب في حياة أبي زرعة، بل في عهد من جاءوا بعده من القضاة، فقد استمر مذهب الأوزاعي مع أن القضاء أُخذ منه، وكان له مكانته في نفس الشعب الشامي، حتى لقد كان له مُفتون، وإن لم يكن له في آخر الأمر قضاة، فقد رُوي أنه في سنة هـ مات مفتي دمشق على مذهب الأوزاعي أبو الحسن أحمد بن سليمان بن حذلم، وكانت له حلقة كبيرة بالجامع، ويظهر أنه آخرُ مفتٍ لمذهب الأوزاعي، ومن هذا يُفهم أن مذهب الأوزاعي كان بالشام إلى منتصف القرن الرابع الهجري ، وأنه لم تتم الغلبة للمذهب الشافعي إلا عند ذلك.


كان لمذهب أبي حنيفة مكانُه عند خلفاء بني العباس ، لأن القضاة كانوا من المذهب الحنفي منذ أن ولَّى الخليفة هارون الرشيد القاضي أبا يوسف الحنفي خطة القضاة. ومع ما كان لمذهب أبي حنيفة من مكان بالعراق لهذه الرياسة، ولأنه موطن أبي حنيفة ومقامه، كان لمذهب الشافعي أيضاً مكان لتلاميذ الشافعي الأولين به، ولهجرة كثيرين من أصحاب الشافعي إلى العراق، ولأن بغداد كانت حاضرة العالم الإسلامي، فكان العلماء يفِدون إليها من كل المذاهب ومختلف الآراء، لذلك كلِّه تزاحم المذهب الشافعي ومذهب أبي حنيفة، وكانت له بجواره كثرة، وإن لم يكن معتنقوه هم الأكثر، ولكن كان كثيرون من أهل بغداد فيهم تعصب شديد لمذهب أبي حنيفة، حتى إن الخليفة القادر بالله ولى عهد القضاء قاضياً شافعياً، فثار أهل بغداد وانقسموا حزبين: حزب لا يؤيد التعيين وهو الأكثر، وحزب يناصره وهم الأقل عدداً، ووقعت الفتن بينهما، فاضطر الخليفة لإرضاء الأكثرين، وعزل القاضي الشافعيَ وأحل محله حنفياً، وكان ذلك في أواخر القرن الرابع الهجري.


ومهما يكن من الأمر فقد كان لمذهب الشافعي مكانٌ ببغداد، ولعلمائه منزلة، ولئن بُعِّدوا عن الرياسة، فقد سادوا بالعلم حتى كان أكثرُهم في موضع التجلة من الخلفاء، وإن كان القضاء في غيرهم. يقول تاج الدين السبكي : وأما بلاد الحجاز فلم تبرح أيضاً منذ ظهور مذهب الشافعي، وإلى يومنا هذا في أيدي الشافعية القضاء والخطابة والإمامة بمكة والمدينة، والناس من خمسمائة وثلاث وستين سنة يخطبون في مسجد رسول الله ﷺ ، ويصلُّون على مذهب ابن عمه محمد بن إدريس، يقنُتُون في الفجر، ويجهرون بالتسمية، ويفردون الإقامة، إلى غير ذلك، وهو ﷺ حاضر يُبصر ويَسمع، وفي ذلك أوضح دليل على أن هذا المذهب صواب عند الله تعالى. ويقول أبراهيمُ الإسنويُّ المتوفى سنة هـ : فإن الشافعي رضيَ الله عنه وأرضاه قد حصل له في أصحابه من السعادة أمورٌ لم تتفق في أصحاب غيره، منها: أنهم المقدمون في المساجد الثلاثة الشهيرة، ومنها: أن الكلمة لهم في الأقاليم الفاضلة المشار إليها، وغالب الأقاليم الكبار العامرة، المتوسطة في الدنيا، المتأصلة في الإسلام، وشعار الإسلام بها ظاهر منتظم، كالحجاز واليمن ومصر والشام والعراق وخراسان وديار بكر وإقليم الروم.


وانتشر المذهب الشافعي في تهامة في مكة المكرمة وجنوبيها من بلاد تهامة وكان المذهب السائد فيها. وانتشر المذهب الشافعي في الأحساء المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية ، وكذلك في دول الخليج العربي بشكل عام، تبعاً لبلاد فارس التي كانت حاضنة المذهب. وبعد الغزو المغولي والحكم الصفوي ، هاجر كثيرٌ من الشافعية من بلاد فارس إلى دول الخليج المجاورة واستقروا بها، ويُعد إقليم الأحساء من أهم التمركزات للشافعية في الجزيرة العربية ، واشتهر منهم مجموعة من العلماء. وأما في عسير فإن المذهب الشافعي يكاد يغشى معظم المناطق فيها، [] وهو المذهب السائد فيها إلى جوار المذهب الزيدي. كان انتشار المذهب الشافعي في اليمن في بداية القرن الخامس الهجري ، أي بعد استقرار المذهب، وللأيوبيين دور كبير في نشر دعائم المذهب باليمن، ولفقهاء الشافعية باليمن جهود مشهورة في خدمة المذهب.


ويقول تاج الدين السبكي : ومنهم أي الشافعية أهلُ اليمن، والغالب عليهم الشافعية، لا يوجد غير شافعي إلا أن يكون بعض زيدية ، وفي قوله: « الإيمان يمان والحكمة يمانية » مع اقتصار أهل اليمن على مذهب الشافعي دليلٌ واضحٌ على أن الحق في هذا المذهب المطلبي. في البحرين : المذهبان السائدان هما المالكية والشافعية. وفي جنوب عُمان ظفار : انتشر فيها المذهب الشافعي بحكم مجاورتها لحضرموت اليمن. دخل المذهب الشافعي بلاد فارس ، ويُقال أنه لم يكن بفارس سوى مذهب الشافعي ومذهب داود الظاهري ظاهرية ، ولم يزالوا شافعيةً أو ظاهريةً، والغالب عليهم ظاهرية، ولكن يظهر أن المذهب الظاهري قد انقرض بعد ذلك، وغلب على المذهب الشافعي المذهبُ الشيعي، فإن فارس اليوم أي إيران تعتنق المذهب الإمامي الإثني عشري ، وهو مذهب الدولة الرسمي، والقضاء فيها على نظامه.


أما بلاد خراسان وسجستان وما وراء النهر ، فقد كان المذهب الشافعي له مكانةٌ فيها، وكان الشافعيون يتناظرون مع غيرهم من أصحاب المذاهب التي كانت تسكن هذه البلاد، وأحياناً كان يصل الخلاف إلى اضطراب، كما كان يقع بينهم وبين الشيعة ، أو بعض الحنفية والحنابلة أحياناً. ولقد تضافرت الأسباب لانتشار المذهب الشافعي بهذه البلاد، والأساس والعماد هو علماء المذهب ونشاطُهم، ومحمد بن إسماعيل القفال الكبير الشاسي المتوفى سنة هـ هو الذي أدخل ذلك في بلاد ما وراء النهر. ورُوي أن الحافظ عبد الله محمد بن عيسى المروزي هو الذي أظهر مذهب الشافعي بمرو وخراسان بعد أحمد بن سيار، وكان السبب في ذلك أن ابن سيار حمل كتب الشافعي إلى مرو، فأُعجب بها الناس، فنظر عبد الله المروزي في بعضها وأراد أن ينسخها، فلم يمكِّنه ابن سيار، فباع ضيعة له وخرج إلى مصر ، فأدرك الربيع وغيره من أصحاب الشافعي، ورجع إلى مرو وابن سيار حيّ، ولقد مات عبد الله المروزي هذا سنة هـ.


وبهذا يكون العلماء هم الذين تولوا نشر مذهب الشافعي ونقله إلى الأقاليم، ونقل كتبه إلى الأقاليم الشرقية النائية في ذلك الوقت، وكانوا لا يكتفون بنشره بين العامة، بل يُقنعون الولاة والسلاطين به. كردستان هي المناطق التي يقطنها الأكراد ، وهي منطقة كبيرة تمتد من شمال العراق وجنوب تركيا وشمال سوريا وغرب إيران ، وتصل إلى أرمينية والشيشان وداغستان ، وغالبيتهم يتبعون المذهب الشافعي، ولهم جهود جليلة في خدمة المذهب. وأما أرمينية ، فالمذهب الشافعي هو المذهب الغالب فيها، وذلك لأن أغلب مسلميها من أصل كردي. كما يسود المذهبُ الشافعي لدى المسلمين في منطقة القوقاز الشيشان ، بينما يشكل أتباع المذهب الحنفي الأكثرية لدى المسلمين في أعماق روسيا وسيبيريا. وأما داغستان ، وهي تقع بين جبال القوقاز وبحر الخزر بحر قزوين ، فأهلها يتبعون المذهب الشافعي، وكانت لهم هجرات لطلب العلم بمكة، خصوصاً في المرحلة الأخيرة من عمر المذهب.


وأما تركستان الشرقية فقد كان الغالب عليها الشافعية، ثم غلب عليها الحنفية أيام العثمانيين. دخل المذهب الشافعي جنوب شرق آسيا قديماً، وهي تشمل: إندونيسيا وماليزيا والفلبين وسيلان وتايلاند وبروناي ، وقد رصد ذلك ابن بطوطة المتوفى سنة هـ في رحلته حيث يقول: ذِكر سلطانِ الجاوة : وهو السلطان الملك الظاهر، من فضلاء الملوك وكرمائهم، شافعيُّ المذهب، محبٌّ في الفقهاء، يحضرون مجلسه للقراءة والمذاكرة، وهو كثير الجهاد والغزو، ومتواضع يأتي إلى صلاة الجمعة ماشياً على قدميه، وأهل بلاده شافعية محبُّون في الجهاد، يخرجون معه تطوعاً، وهم غالبون على من يليهم من الكفار. وهذه المناطق قد دخلها المذهب الشافعي عن طريق هجرة الحضارمة الذين هاجروا إلى تلك الأماكن، [] والأغلبية الساحقة من سكان تلك المناطق متمذهبون بالمذهب الشافعي، [] ومنذ زمن قديم يرحل أعداد كبيرة من الطلبة الإندونيسيين لطلب الفقه الشافعي، خصوصاً إلى مكة وحضرموت ومصر، [] ويعد هؤلاء من أهم المجتمعات التي تتبنى المذهب الشافعي، نظراً لكثرة عددهم وعدم وجود مذهب آخر يُنافس المذهب الشافعي.


وينتشر المذهب الشافعي في جنوب الهند مليبار : وهي الجزء الجنوبي الغربي من الساحل الهندي، وأغلب سكانه من الشافعية، قُدِّر عددُهم بمليون مسلم، [] وكانت لهم هجرات لطلب العلم إلى مكة المكرمة. انتشر المذهب الشافعي في الصومال وأريتريا وجيبوتي عن طريق اليمنيين الذين هاجروا إلى هذه المناطق بحكم القُرب، وغالبية سكانها شافعية. وقد رصد ذلك ابن بطوطة بقوله: وسافرتُ من مدينة عدن في البحر أربعة أيام، ووصلت إلى مدينة زيلع وهي مدينة البرابرة ، وهم طائفة من السودان شافعية المذهب، وبلادهم صحراء مسيرة شهرين: أولها زيلع ، وآخرها مقدشو. وأما أثيوبيا الحبشة فبها قسم كبير من الشافعية، خصوصاً في القسم الجنوبي منها المتاخمِ للصومال، واشتهر منهم مجموعة من العلماء. وأما السواحل الشرقية الإفريقية وهي تنزانيا وكينيا وأوغندا وجزر القمر ومدغشقر فقد وصل المذهب الشافعي إليها مبكراً في القرن الرابع الهجري تقريباً عبر اليمن ، ولا يزال المذهب الشافعي هو السائد في بلاد شرقي إفريقية اليوم. انتقل إلى المحتوى الموسوعة. الصفحة الرئيسية الأحداث الجارية أحدث التغييرات أحدث التغييرات الأساسية.


المواضيع أبجدي بوابات مقالة عشوائية تصفح من غير إنترنت. تواصل مع ويكيبيديا مساعدة الميدان تبرع. ماذا يصل هنا تغييرات ذات علاقة رفع ملف الصفحات الخاصة وصلة دائمة معلومات الصفحة استشهد بهذه الصفحة عنصر ويكي بيانات. إنشاء كتاب تحميل PDF نسخة للطباعة. في مشاريع أخرى. ويكيميديا كومنز ويكي الاقتباس ويكي مصدر. في نسخة ويكيبيديا هذه، وصلات اللغات موجودة في الزاوية العليا اليسرى بجانب العنوان. انتقل إلى الأعلى. المحتويات انقل للشريط الجانبي أخف. مقالة نقاش. اقرأ عدّل تاريخ. المزيد اقرأ عدّل تاريخ. الإمام مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ. تخطيط «الإمام المجدد محمد بن إدريس الشافعي ». الإيمان توحيد الله الإيمان بالملائكة الإيمان بالكتب السماوية الإيمان بالرسل والأنبياء الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالقضاء والقدر. أركان الإسلام.



نبذة مختصرة عن المذهب "المذهب الشافعي". المذهب الشافعي. مؤسس هذا المذهب و إمامه: أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي القرشي المطلبي. و لد هذا الإمام في غزة سنة هـ ، و هو العام الذي مات فيه أبو حنيفة —رحمه الله-، توفي والد الشافعي و هو صغير، فحملته أمه إلى مكة حيث نشأ فيها، و قد حفظ القرآن في صباه، ثم خرج إلى هذيل بالبادية فحفظ كثيرا من شعر الهذليين، و عاد إلى مكة فلزم مسلم بن خالد الزنجي، و هو شيخ الحرم و مفتيه، فأخذ عنه الفقه حتى أذن له بالإفتاء، ثم رحل إلى المدينة، و تتلمذ للإمام مالك —رحمه الله-، و قد اضطر للعمل، نظرا لفقره، فتولى عملا باليمن، بيد أنه اتهم و هو باليمن مع غيره بالتآمر ضد الدولة العباسية، و حمل إلى بغداد، و كاد يقتل لولا شهادة محمد بن الحسن له، و موقف حاجب الرشيد الفضل بن الربيع الذي دافع عنه، فأطلق الرشيد سراحه، و أمر بوصله. و كانت هذه المحنة مصدر خير للشافعي؛ إذ توثقت صلته بعدها بالإمام محمد بن الحسن، وأخذ عنه فقه العراق و جرت له مع هذا الإمام مناقشات و مناظرات، ثم عاد الشافعي إلى مكة و لكنه ما لبث أن قدم العراق سنة هـ ، و أخذ يملي كتبه التي كتبها في مذهبه القديم، ومن اهمها كتاب الحجة و الرسالة.


و في سنة هـ سافر إل مصر، و فيها ظهرت مواهب الشافعي و مقدرته الكلامية، فأملى على تلاميذه المصريين كتبه في مذهبه الجديد الذي كتبه أو رواه تلاميذه في مصر عنه. و لم يزل الشافعي بمصر بعد سفره إليها حتى توفي بها سنة هـ. أصول المذهب الشافعي. يختلف الشافعي عن أئمة المذاهب في أن كتب كتبه بنفسه و أملاها على تلاميذه، و كان إملائه في بعض الأحيان من ذاكرته، و كما يختلف عنهم أيضا في أنه نشر مذهبه بما قام به من الرحلات، و لم يعرف هذا لغيره من الأئمة، فتلاميذهم هم الذين دونوا آرائهم، ونشروا مذاهبهم. وأصول المذهب الشافعي مدونة في الرسالة، و الأم ، واختلاف الحديث، ففي الأم يقول: و العلم طبقات شتى: الأولى: الكتاب و السنة إذا ثبتت السنة، ثم الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب ولا سنة، و الثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي —صلى الله عليه وسلم- و لا نعلم له مخالفا منه، و الرابعة: اختلاف أصحاب النبي —صلى الله عليه وسلم- في ذلك، و الخامسة: القياس على بعض الطبقات، و لا يصار إلى شيء غير الكتاب و السنة و هما موجودان، و إنما يؤخذ العلم من أعلى".


فأصول الأحكام لدى الشافعي من هذا النص خمسة، مرتبة على خمس مراتب كل مرتبة مقدمة على ما بعدها:. المرتبة الأولى: الكتاب و السنة إذا ثبتت، فالسنة مع الكتاب في مرتبة واحدة فهي في كثير من الأحوال مبينة لهن مفصلة لمجمله. و المرتبة الثانية: الإجماع فيما ليس فيه كتاب و لا سنة، و المراد بالإجماع إجماع الفقهاء. و أما المرتبة الثالثة: فقول بعض أصحاب رسول الله —صلى الله عليه وسلم- رأيا من غير أن يعرف أن أحدا خالفه. و المرتبة الرابعة: اختلاف أصحاب رسول الله —صلى الله عليه وسلم- في المسألة، فيؤخذ من قول بعضهم ما هو أقرب إلى الكتاب و السنة. و المرتبة الخامسة: القياس على أمر عرف حكمه بواحد من المراتب الأربعة السابقة. و قد دافع الشافعي في رسالته و في اختلاف الحديث دفاعا مجيدا عن العمل بخبر الواحد الصحيح، كما تحدث في الرسالة عن القياس حديثا لم يسبق به، و كان موقفه منه موقفا وسطا لم يتشدد فيه تشدد مالك، و لم يتوسع فيه توسع أبي حنيفة.


و قد أنكر الشافعي الاستحسان ، و هاجم القائلين به هجوما عنيفا، و هو يعني بالاستحسان مجرد الرأي من غير أن يكون مستندا إلى أصل شرعي. و الحقيقة أن ما أنكره الشافعي ليس هو الاستحسان الي توسع فيه الأحناف و أخذ به المالكية، و إنما يرجع إلى الأخذ بأقوى الدليلين أو ترجيح بعض الأدلة على بعض، و هو بهذا المعنى يدخل في الأدلة التي يأخذ بها الشافعي. كذلك أنكر الشافعي الاحتجاج بعمل أهل المدينة، ورد المصالح المرسلة، واستغنى عنها بما سماه المناسبة ، أي أن يكون هناك مشابهة بين ما يسمى بالمصلحة المرسلة و المصلحة المعتبرة بإجماع أو نص، و من ثم تكون لديه وجها من وجوه القياس فلا تكون أصلا قائما بذاته. و لا يحتج الشافعي بأقوال الصحابة، لأنها تحتمل أن تكون عن اجتهاد يقبل الخطأ. و الشافعي بمنهجه الأصولي كان وسطا بين الحنفية و المالكية، فهو يتسع في الاستدلال بالحديث أكثر ما فعل أبوحنيفة و مالك، كما أنه حد من الرأي و القياس و ضيق دائرة الأخذ بها، و من ثم عدل بعض أهل الرأي عن مذهب أبي حنيفة إلى مذهب الشافعي، كذلك كان أهل الحديث أميل إلى هذا الإمام، و لا غرو إن كان من أنصاره الإمام أحمد بن حنبل و إسحاق بن راهويه و غيرهما من كبار المحدثين.


و بهذا المنهج الأصولي قرب الشافعي بين مدرستي الرأي و الحديث أكثر مما فعل سواه من الفقهاء، و هو إلى هذا أفحم الذين هاجموا السنة وفند مزاعمهم ورد كيدهم إلى نحورهم، فضلا عن سيقه في تدوين الأصول، و لذا يعد هذا الإمام مجدد القرن الثالث. تلاميذ الشافعي. للشافعي تلاميذ كثر منهم العراقي و الحجازي و المصري، نكتفي هنا بذكر أشهرهم و هم:. البويطي : و هو يعقوب يوسف بن يحي البويطي، نسبة إلى بويط قرية في صعيد مصر، و هو من أكبر تلاميذ الشافعي، و هو خليفته في حلقته من بعده، و كان الشافعي يعتمد عليه في الفتيا. و كان من العباد القوامين الصوامين، و قد سجن في بغداد في محنة القول بخلق القرآن، و كان هو في السجن إذا كان يوم الجمعة من كل أسبوع غسل ثيابه واغتسل و تطيب فإذا سمع النداء إلى صلاة الجمعة مشى إلى باب السجن، فيقول له السجان: إلى أين؟، فيقول: أجيب داعي الله، فيقول له: ارجع رحمك الله، فيقول البويطي: اللهم إني أجبت داعيك فمنعوني. و قد مات في سجنه سنة هـ. المزني : هو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحي، ولد سنة هـ ، و هو مصري طلب العلم منذ صغره، و لما جاء الشافعي إلى مصر اتصل به و تفقه عليه، حتى قال الشافعي فيه: المزني ناصر مذهبي.


و هو يعد فقيها مجتهدا مطلقا، لما عرف له من اختيارات خالف فيها إمامه، و قد ألف كتبا كثيرة من أهمها: المختصر الصغير الذي نشر به المذهب، و الذي كان يقرأ أو يعول عليه في الشرح و الفتوى، و كتاب الجامع الكبير، و الجامع الصغير، و المنثور، و المسائل المعتبرة، توفي سنة هـ. الربيع المرادي : هو الربيع بن سليمان بن عبد الجبار، ولد بالجيزة بمصر سنة هـ ، صاحب الشافعي و راوي كتبه، كان ثقة ثبتا، روى عنه أبو داود و النسائي وابن ماجه و الترمذي و الطحاوي. و الربيع المرادي هو الذي روى كتب الإمام و عن طريقه وصلتنا الرسالة و الم و غيرهما، فالدارسون و الباحثون في المذهب الشافي مدينون للربيع الذي طالت صحبته للشافعي و أحبه الشافعي حتى قال له: لو أمكنني أن أطعمك العلم لأطعمتك، توفي سنة هـ. حرملة : هو أبو حفص حرملة بن عبدالله التجيبي المصري، ولد سنة هـ و روى عن الشافعي، و أكثر ما رواه عن ابن وهب، روى عنه مسلم و ابن ماجه و أثنى عليه ابن معين و غيره.


من تصانيفه : المبسوط و المختصر، توفي سنة هـ. الكرابيسي : هو أبو علي الحسين بن علي بن زيد الفقيه البغدادي، تفقه أولا على مذهب أهل الرأي، و لما قدم الشافعي بغداد سمع منه و تفقه عليه فانتقل إلى مذهبه. قال الزعفراني: و كان الكرابيسي من متكلمي أهل السنة، أستاذا في علم الكلام كما هو أستاذ في الحديث و الفقه، و كان أحفظ أصحاب الشافعي لمذهبه، توفي سنة أو هـ. مواطن انتشار المذهب الشافعي. كتب المذهب الشافعي. الإمام الشافعي هو الإمام البذي دون آراءه و فقهه بنفسه، و لم يفعل هذا إمام سواه من أئمة المذاهب، و من ثم كانت كتب الشافعي هي المصدر الأول للمذهب، و على رأس هذه الكتب:. و لهذه الموسوعة خصائص منهجية و أسلوبية تنفرد بها، فهي تتميز بجزالة اللفظ و الجواب، و الجمع بين الفروع و الأصول، و لهذا يمثل كتاب الأم فقه الشافعي أصدق تمثيل، و يعبر عن عمق البحث الفقهي و شموله لدى هذا الإمام أوفى تعبير. و بعد الشافعي كتب تلاميذه، و فقهاء المذهب على مدة عدة قرون مؤلفات كثيرة منها:.


مختصر المزني : لأبي إبراهيم إسماعيل بن يحي المزني ت: هـ و المزني كما أشرنا من قبل اتصل بالشافعي و تفقه عليه، و قال فيه إمامه بأنه ناصر مذهبي ، و كان مجتهدا مطلقا، و هو أول من صنف في مذهب الشافعي، و يعد كتابه المختصر من أهم مصنفاته، و قد قال في مقدمته قال أبو إبراهيم إسماعيل بن يحي المزني —رحمه الله- : اختصرت هذا الكتاب من علم محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله، و من معنى قوله، لأقربه على من أراده مع إعلاميه نهيه عن تقليده و تقليد غيره، لينظر فيه لدينه و يحتاط فيه لنفسه و بالله التوفيق. المهذب : لأبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي ت: هـ و قد ذكر فيه أصول مذهب الشافعي بأدلتها، و ما تفرع على أصوله في المسائل المشكلة بعللها.


و قد شرح المهذب الإمام النووي في كتابه المجموع ، و هو موسوعة في الفقه المقارن، و سترد الإشارة إليه في الحديث عن كتب هذا الفقه. التنبيه في فروع الشافعية : و هو من تأليف صاحب المهذب، و هذا الكتاب أحد الكتب الخمسة المشهورة و المتداولة بين المتقدمين من الشافعية و هي: مختصر المزني، و المهذب، و التنبيه، والوسيط، و الوجيز. و على التنبيه شروح و مختصرات تربى على المائة ، كما قال صاحب كشف الظنون. نهاية المطلب في دراية المذهب : لإمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله الجويني ت: هـ ، و هو موسوعة في فقه الشافعي لم يصنف في المذهب مثله كما قال السبكي، و يتعرض الجويني في كتابه إلى آراء الفقهاء من المذاهب الأخرى، و لذا يعد كتاب نهاية المطلب من كتب الفقه المقارن ، كما يعد من أمهات كتب المذهب الشافعي. البسيط في فروع الفقه : لأبي حامد محمد بن محمد الغزالي ت: هـ و هو كالمختصر لنهاية المطلب لشيخه إمام الحرمين. الوسيط في فروه المذهب : لغزالي، و هو مختصر من البسيط، و قد عمد فيه أبو حامد إلى حذف الأقوال الضعيفة، و التفريعات الشاذة.


الوجيز في فقه الإمام الشافعي : للغزالي أيضا، و هو مأخوذ من البسيط و الوسيط مع بعض الزيادات، و من ثم ألف كتاب آخر سماه الخلاصة. و فيه قال الشاعر:. هذب المهذب حبر أحسن الله خلاصه. ببسيط و وسيط و وجيز و خلاصه. المحرر : لأبي القاسم عبدالكريم بن محمد الرافعي ت: هـ و هو عمدة في تحقيق المذهب، و هو مقتبس من كتاب الوجيز للغزالي، و قد اشتغل به العلماء شرحا واختصارا و تدريسا، و من شروحه كتاب "كشف الدرر في شرح المحرر" لشهاب الدين أحمد بن يوسف السندي الحصكفي ت: هـ. فتح العزيز : في شرح الوجيز لصاحب المحرر، و قد شرح فيه الرافعي كتاب الوجيز للإمام الغزالي، و وضح فقه المسائل كما كشف عما انغلق من الألفاظ و دق من المعاني. للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي ت: هـ عدة مؤلفات في المذهب لها أهميتها و قيمتها، و إن جاءت اختصارا أو شرحا لكتب أخرى، و لكن للنووي مع هذا إضافاته و تحقيقاته العلمية النفيسة، و من هذه المؤلفات: الروضة في الفروع، و قد اختصره النووي من كتاب فتح العزيز للرافعي، و كتاب منهاج الطالبين للنووي، و هو اختصار لكتاب المحرر الذي ألفه الرافعي. و على منهاج الطالبين عدة شروح منها: تحفة المحتاج لشرح المنهاج لابن حجر الهيثمي ت: هـ ، و كتاب مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الخطيب ت: هـ ، و نهاية المحتاج شرح المنهاج لابن حمزة الرملي ت: هـ.


و من المتون المعتبرة في المذهب الشافعي:. و لما امتاز به هذا المتن أقبل عليه طلاب العلم و العلماء قديما و حديثا بالحفظ و الدرس و الشرح، و من العلماء الذين شرحوا متن "الغاية و التقريب" الشربيني الخطيب صاحب مغني المحتاج ، في كتابه "الإقلاع في حل ألفاظ أبي شجاع"، و تقي الدين الحسيني الدمشقي في كتابه "كفاية الأخيار" و أبو الفضل ولي الدين البصير في كتابه "النهاية". مصطلحات الشافعية. الأظهر : أي من قولين أو أقوال للإمام الشافعي، قوي الخلاف فيهما أو فيها و مقابله ظاهر لقوة مدرك كل. المشهور : أي من قولين: أو أقوال للشافعي لم يقو الخلاف فيهما أو فيها و مقابله غريب لضعف مدركه. الأصح : أي من وجهين أو أوجه، و لكن لم يقو الخلاف بين الأصحاب و مقابله ضعيف؛ لفساد مدركه. المذهب : مدلوله أن المفتى به هو ما عبر عنه بالمذهب. النص : أي نص الشافعي. و مقابله وجه ضعيف أو مخرج. الجديد : هو ما قاله الشافعي في مصر تصنيفا أو إفتاء. الشيخان : هما الرافعي و النووي. تجاوز إلى المحتوى الرئيسي. شبكة الدرر الشامية المنتدى EN.


الرئيسية أهل السنة عقائد في بلاد الشام الفقه وأصوله السياسة الشرعية القضية الشهرية الفتاوى الفتاوى العامة فتاوى النوازل المكتبة العامة مقالات وأبحاث سير أعلام الشام سير أعلام علماء ودعاة بلاد الشام سير أعلام المجاهدين خاطرة الكتب المرئيات الصوتيات. أنت هنا الرئيسية » نبذة مختصرة عن المذهب "المذهب الشافعي". نبذة مختصرة عن المذهب "المذهب الشافعي" المذهب الشافعي. قرأت مرات. مواضيع: الفقه وأصوله. شارك مع:.



نبذة مختصرة عن المذهب "المذهب الشافعي",تم الإرسال

WebMar 19,  · أصول مذهب الإمام الشافعي أشهر مصنفات المذهب الشافعي. كتب الإمام الشافعي في الفقه القديم والجديد ” الحجة”، و “الأم”، وفي الأصول كتاب “الرسالة” Webتكوين المذهب الشافعي وأطواره. أصول الفقه. وبعد وفاة الإمام الشافعي نقل الطلبة مذهبه وانتشر روايته، ونقلوه في مؤلفاتهم وعرفوه غيرهم من أصحاب المذاهب الفقهية وهو ما يعبِّر عنه أيضاً بـ: «أصول مذهب الإمام الشافعي». يُعد الإمام الشافعي أول من صنَّف في أصول الفقه، ورسالته التي ألفها في هذا العلم هي أول مصنف فيه وصل إلينا؛ وبهذا يكون الشافعي قد انفرد بتدوين أصول مذهبه؛ فكفى أتباعه العبء الذي تحمَّله غيرهم، باستنباط أصول مذاهبهم من فروعهم، وقد رتَّب الشافعي أصول استنباطه، وتحدَّث عنها بالتفصيل See more Webأصول المذهب الشافعي ذكر الإمام الشافعي الأصول التي قام عليها مذهبه صراحة في كتابه الأمّ والرسالة، وهذه الاصول هي القرآن الكريم، والسنة النبويّة الشريفة، والإجماع إن وُجد، وإلّا فقول Webأصول الامام الشافعي: الأصل الأول: كتاب الله تعالى والاستدلال به يتوقف على معرفة اللغة ، ومعرفة أقسامها. وهو ينقسم إلى: أمر ونهي ، وعام وخاص ، ومجمل ومبين ، وتاسخ ومنسوخ. الأصل الثاني: السنة والسنة في اللغة: أصلها الطريقة المحمودة ، قال الخطابي ، فإذا Webأصول المذهب الشافعي 1 ـ الكتاب. والکتاب مشترک بين المذاهب. 2 ـ السنّة. 3 ـ الإجماع. 4 ـ قول الصحابي الذي لايخالفه قول آخر من الصحابة. 5 ـ القياس ... read more



قال الإمام النووي في الإشارة إلى الطريقتين وصْفاً ومقارنةً: «واعلم أن نَقْلَ أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي، وقواعد مذهبه، ووجوه متقدمي أصحابنا أتقَن وأثبت من نقْلِ الخراسانيِّين غالباً، والخراسانيُّون أحسن تصرفاً، وبحثاً، وتفريعاً، وترتيباً غالباً». ويتضمن هذا الطور أيضاً مرحلتين أساسِيَّتين؛ هما: [2]. و فيه قال الشاعر:. ابن الأهدل. ويقال أن سبب موت الشافعي هو مرض البواسير الذي أصابه، فقد روى الربيع بن سليمان حالَ الشافعي في آخر حياته فقال: «أقام الشافعي ها هنا أي في مصر أربع سنين، فأملى ألفاً وخمسمئة ورقة، وخرَّج كتاب الأم ألفي ورقة، وكتاب السنن، وأشياء كثيرة كلها في مدة أربع سنين، وكان عليلاً شديد العلة، وربما خرج الدم وهو راكب حتى تمتلئ سراويله وخفه يعني من البواسير ». العبَّاسي الأوَّل. طوائف إسلامية.



عاد الشافعي إلى مكة وأقام فيها تسع سنوات تقريباً، وأخذ يُلقي دروسه في الحرم المكي ، ثم سافر إلى بغداد للمرة الثانية، فقدِمها سنة هـ ، وقام بتأليف كتاب الرسالة الذي وضع به الأساسَ لعلم أصول الفقه ، ثم سافر إلى مصر سنة هـ. سحبان وائل الأخطل الفرزدق عبد الحميد الكاتب فضل الشاعرة حسان بن ثابت ميسون بنت بحدل جميل بن معمر سراقة بن مالك المدلجي جرير كعب بن زهير الخنساء كثير عزة ليلى الأخيلية سراقة البارقي قتيلة بنت الحارث وضاح اليمن زفر بن الحارث الكلابي ذو جدن الحميري دريد بن الصمة قطري بن الفجاءة. كان الشافعي يميل في جداله دائماً إلى نصرة الحديث ورجال الحديث، مع علمه بالجدل وأساليبه، وقد بهت أهلَ الرأي في أول التقائه بهم في بغداد سنة هـ ، ويقول الرازي في ذلك: [62]. للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي ت: هـ عدة مؤلفات في المذهب لها أهميتها و قيمتها، و إن جاءت اختصارا أو شرحا لكتب أخرى، و لكن للنووي مع هذا إضافاته و تحقيقاته العلمية النفيسة، و من هذه المؤلفات: الروضة في الفروع، و قد اختصره النووي من كتاب فتح العزيز للرافعي، أصول المذهب الشافعي كتاب منهاج الطالبين للنووي، و هو اختصار لكتاب المحرر الذي ألفه الرافعي, أصول المذهب الشافعي. جزء من سلسلة مقالات حول, أصول المذهب الشافعي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق